محطات صغيره في حياة إنسان عادي - الحلقه الأولى / ولادة الذاكره - الجزء االثاني

[b]
محطات صغيره في حياة إنسان عادي
الحلقه الأولى
ولادة الذاكره - الجزء االثاني

الإخوه والأخوات
هذه المحطه هي الأخيره من محطات ولادة الذاكره، وسأنتقل بعدها إلى محطات طفوله وشباب يافع وتمتد من عام١٩٥١وحتى عام ١٩٥٨ وهوتاريخ دخولي مرحلة الدراسه الثانويه وفيها تنشط شقاوة الطلبه كما يعلم القراء وسأدون عن هذه الشقاوه المدرسيه ولكنها شقاوه تبقى في حدود الإحترام.
في عام ١٩٥٠ إنتظمت في الصف الثاني الإبتدائي ,بدأت أشعر بأني أكثر إعتمادآ على نفسي وبدأت أُلَبي إلى حد ما مطالب البيت من شراء خضار ولحمه وطعام قطتي لولو{ الرجاء قراءة مدونة حكاية قطتين والتي شاركت القطه لولو في فكرتها} حيث لم يكن الهاتف يقوم بهذه المهمه بعد، فلم يكن في البلده أكثر من ٤٠ خطآ هاتفيآ تشغل دوائر الحكومه نصف هذا العدد ،كان الإتصال يدويآ، فكل جهاز هاتف مزود بذراع صغيره يديرها طالب المكالمه بيده، فيقوم عامل السنترال في البريد بتأمين الوصله بين الخطين. ذكرت ذلك الواقع لأبين للقراء الكرام كم تقدم علم الإتصالات اليوم حيث صار الخليوي في متناول الأطفال الصغار يتصلون بأية بقعه من بقاع المعموره, ناهيك عن إرسال الصورالثابته والمتحركه إلى اي مكان في العالم والتفرج على عشرات الأقنيه الفضائيه التلفزيونيه والإستماع لمختلف الإذاعات مع الإستفاده من خدمات الإنترنت كل ذلك في جهاز صغير لايتجاوز حجم الكف . لم يكن الهاتف نادر الوجود في الباب فحسب، بل كان الراديو أيضآ،وكانت العائله التي تملك مذياعآ تتباهى به أمام الجيران والمعارف والأصدقاء. في أحد الأيام عاد والدي من حلب ومعه صندوق من الكرتون بحجم غسالة الألبسه الكبيره ،فتحنا الصندوق بلهفه فإذا هو الراديو، كان شكله أنيقآ من ماركة ماركوني الإنجليزيه ذو ثمان موجات تتوسطه عين بلوريه يطلق عليها العين الساحره يصبح لونها أخضر بعد دقيقه من تشغيله عندها يصبح الراديو جاهزآ للبث، أهم إذاعات ذلك الوقت كانت محطة الشرق الأدنى للإذاعه العربيه والإذاعه المصريه وإذاعة شرقي الأردن من عمان والقدس وإذاعة دمشق وكانت بقوة ٥٠ كيلوات فقط تبث ساعات محدوده، أشبع الوالد رغبته بسماعه الأخبارالسياسيه ،والوالده وأنا والإخوه كنا نستمتع بالتمثيليات والأغاني،أهم مذيعي إذاعة دمشق في تلك الأيام، عصام حماد،عبله الخوري وتوفيق حسن، وكان مدير الإذاعه الشاعر الكبير صاحب الصوت الرائع الأمير يحيى الشهابي،وأهم التمثيليات الإذاعيه السوريه كانت مستوحاة من التقاليد الدمشقيه من تأليف حكمت محسن وإخراج تيسير السعدي وتمثيل أنورالبابا وكان يتقمص شخصيه نسائيه لندرة الممثلات في ذلك الزمان.
لم تكن بيوت بلدة الباب مجهزه بحمامات ، ولكن كانت في البلده عدة حمامات عامه تخصص في الصباح للنساء ومساءآ للرجال,كانت الوالده تحب ان تأخذنا الى حمّام الحجار لقربها من بيتنا ونظافتها ومعرفتنا بأصحابها فنحظى على معامله متميزه كحصولنا على خلوه خاصه بنا. الإخوه الكبار وهم غسان وحسان وعدنان كانوا من نصيب وردية الوالد الرجاليه,وانا وأخي زهير واخي رضوان" لم يكن اخي اسامه واختي ميساء قد ُولدا بعد"مع الورديه النسائيه. اعزائي القراء ذكرتني حمّام زمان بقصه طريفه بطلها اخي زهير والذي يكبرني بثلاث سنوات, فلقد كانت القيّمه وهي المرأه القويه المسؤوله عن الإنضباط ومحاسبة الزبائن( تجلس على مصطبه خاصه في القسم البرّاني امام بركة الماء قرب مدخل الحمام مشرفة على كافة مصاطب الزبونات حتى يكون كل شيئ تحت إشرافها) تعترض في كل مره على إحضار اخي زهير مع الوالده إلى حمّام الحريم حيث كان عمره في ذلك الزمان ثمان اعوام فكان يجري بينهما الحوار التالي
- يا ام عدنان خانم والله ابنك زهير صار شب (شاب) خلّي يروح مع ابوه
- ياست ساميه والله زهير لسّه ما كَمّل الست سنين
- شو هالحكي ست ام عدنان (هلأّ) جّوزي الولد بتجوز , والله النسوان بالحمام صرعوني بالحكي.
لم تكن الست ساميه تزيد على ذلك حتى لاتزعل والدتي الا ان اخي زهير تمَ فرزه مع وردية الرجال وانتهى العتب.
تجهز الوالده بقجة الحمام وتساعدها مربيه كبيره بالسن أسمها عيشه تعيش معنا وكانت نعم المرأة الصالحه ولكني كنت أعترض على أن اكون من حصتها في تغسيلي ولكن دون نتيجه, حيث تغسل رأسي بالماء والصابون أكثر من عشرين مره وتدعى الغسله الواحده ب التم، ثم تختم عملها بتم إضافي من منقوع البيلون وهي تربه غضاريه ينقعونها بالماء لتصبح سائل كثيف بني اللون. والحقيقه أن منقوع البيلون يفوق الشامبوات في جعل الشعر كالحرير خاليآ من الدهون والقشره, ثم يأخذوني إلى القسم الوسطاني من الحمّام لأستريح قليلآ قبل ان ينقلوني الى القسم البرّاني لأجلس على الصطبه المحجوزه لنا ملفوفآ بالمناشف وأنا كالشوندره المسلوقه.
***
الصوره المرافقه الأولى للحلقه كانت لحمام عام ويظهر فيها البراني وبركه الماء في الوسط وتحيط بها المصاطب المرتفعه عن الأرض بستة درجات تقريبآ وامام كل مصطبه يوجد مجموعه من القباقيب الخشبيه. القسم الثاني من الحمّام هو الوسطاني ودرجة حرارته مرتفعه والقسم الثالث من الحمّام هو الجواني حيث يحتوي على خلوات للإغتسال على المحيط وكل خلوه مزوده بأجران حجريه كبيره وفتحتان في الجدار تصبان الماء الساخن والبارد وتجمع مياه التغسيل بقناة بعرض عشر سنتمترات تمر امام كل الخلوات الى مجرور عام اما نظام الإناره فهي قطع بلوريه موزعه بإنتظام على قبب الحّمام تعطي إناره جيده نهارآ
الصوره الثانيه المرافقه تبين الأكلات التي يحضرنها الزبونات معهن مع المقبّلات والفواكه. حيث ان برنامج الحمّام للإغتسال والمتعه معآ.
***
من أهم الصداقات الحميمه التي نسجتها عائلتنا مع اهالي الباب كانت مع عائلة الإستاذ المرحوم محمد علي المغربي، تم تكليف الأستاذ المغربي بتدريس مادة العلوم في ثانوية البحتري، يروي أحد طلابه هذه القصه عنه فيقول: جمعنا الأستاذ المغربي في المختبر ليقوم أمامنا بتشريح أرنب ، وما أن خَدَّرَه وسن شفرته حتى سقط مغشيآ عليه، فنقله طلابه إلى غرفة الإسعاف في المدرسه، وفي اليوم الثاني سأل الأستاذ عن الأرنب فأجابه أحد طلابه :لاتقلق لقد قام زميلنا بتشريح الأرنب بدلآ عنك، ثم أخذه إلى بيته فطبخه وأكله. كنا نسمي الأستاذ المغربي ب عمو الحجي، وكان مشهورآ بسرد نكات من واقع الحياة، كان يزورنا في البيت ونجلس متحلقين حوله في أرض الحوش على كراسي صغيره من القش،وما ان يبدأ بسرد نكاته حتى يبدأ هو بالضحك حتى يكاد أن ينقلب على ظهره وسط دهشة السامع وكنت أضحك على ضحكته دون أن أفهم مضمون النكته، إلا أن ضحكي كان يزداد عندما تكون النكته مكرره أمامنا للمره العاشره وهو لا يمل من الضحك عليها، وكان يرافق روايته للحكايه تقطيعه لقش الكرسي من الأسفل ، وما ان يقوم مودعآ إلا ويكون قد قضى على القش كله، رحمه الله.
في أحد أيام١٩٥٠وبينما كنا في حصة الدرس فإذا بصوت يهدر كالرعد خرجنا مسرعين إلى الباحه مع باقي الفصول دون إستئذان لنتبين مصدر الصوت فإذا بنا نرى طائره صغيره تكاد تلامس سطح البيوت وكانت مكشوفه بحيث نستطيع تمييز قائدها بوضوح بنظارته المحكمه وقبعته الجلديه بينما كانت يده تلوح لنا وسط تصفيق التلاميذ وحماسهم،عرفنا بعدها أن الطيار من أهالي بلدة الباب وأسمه كامل الشهابي، دارالطيار دورتين فوق البلده ثم أقفل راجعآ إلى قاعدته في حلب، وبعد شهرين من هذه الحادثه جاءنا الخبر المؤلم بإستشهاد الطيار بسقوط طائرته أثناء تدريبه لضباط مستجدين حزنت عليه سوريا وخاصة أبناء بلدته الباب، سميت القاعده الجويه في حلب بأسمه تخليدآ لذكراه. وفي نفس العام وصل إلى الباب فريق سينمائي ليصور أول فلم سوري عنوانه : عابر سبيل، بطولة المطرب السوري المعروف نجيب السرّاج ،تحكي قصة الفلم شخص فقد حبيبته فراح يبحث عنها في كل المحافظات السوريه وأقضيتها، كانت المجموعه السينمائيه بحاجه إلى حمار أبيض جميل عليه بردعه أنيقه يركب عليه بطل الفلم بلباسه البدوي باحثآ عن حبيبته في بساتين الباب، وجدوا ضالتهم عند إحدى العوائل فأعطوهم الحمار لقاء السماح لكل أفراد العائله بمشاهدة الفلم مجانآ أثناءعرضه في الباب فوافقوا. بعد عدة شهور وصلت
نسخه من الفلم إلى الباب ، سبق عرض الفلم دعايه كبيره أين منها دعاية فلم ذهب مع الريح وكازابلانكا، كل ذلك من أجل عيون الحمار الجميل , ذهبت مع والدتي وصديقاتها لحضور الفلم ، وجلسنا في البلكون المتواضع ذوالعشر مقاعد فقط، بدأ العرض وشعرت في البدايه بملل واضح، فلم أحضر الفلم للإستماع إلى أغاني نجيب السراج العاطفيه،وإنما حضرت لغاية أسمى وهي تشجيع حمار البلده الجميل ذو البردعه الأنيقه، وفجأة أطل الحمار علينا يمتطيه البطل نجيب السراج بلباسه البدوي فضجت الصاله بالتصفيق والصفير ووجدت نفسي أصفق بعفويه،وعلامات الفرح باديه على محياي تصاحبها الحسد من هذه الشعبيه الكبيره التي يتمتع بها حمار بلدنا. في أواخر عام ١٩٥١ صدرت التعليمات من وزارة المعارف لوالدي للإنتقال إلى حلب لإدارة المدرسه الثانويه الخامسه وهي مدرسه مُحدَثه في حي الجميليه .
https://www.youtube.com/watch?v=ZEFu_elQcgI
[/center]
إستقبلت الخبر بين الحزن والفرح، فالحزن كان لفراق بلده زرعت فيها طفولتي ونميت فيها ذاكرتي ، والفرح لأني ساعيش في بلده كبيره وجميله وفيها كل الكماليات التي يحتاجها الإنسان. إستقبل أهل البلده الخبر بحزن شديد ، فأولموا لنا الولائم، وأقاموا لنا السهرات، وودعونا إلى مشارف البلده ليغادر القطار بذلك محطة ولادة الذاكره منطلقآ إلي محطة طفوله وشباب يافع ...فإلى اللقاء
مهندس هشام نجار[/b]

أخي المفضال الكريم الأديب والروائي /
هشام نجار

انت تقدم لقراء العربية أدباً من المدرسة الواقعية حيث تتلمس بآطراف أصابعك أدق التفاصيل وإلقاء الضوء على كل جوانب الحياة في كل محطة
انت تنقل القارئ بين عصرين الماضي الحاضر
كما تقدم شهادة حية على المجتمع العربي في سوريا الحبيبة بل تتغلغل في شعاب الماضي بكل إخلاص
يشهد الله اني أنتظر بلهفة وشوق تلك المحطات وكم حققت لي تلك اليوميات سعادة غامرة وانت تأخذ بيدي في دنيا الطفولة والبرأة والمرح
أشكرك ايها الأديب الأريب
وحبذا لو زدت الموضوع بصور ليكون جاهزاً من نقله من العالم الرقمي إلى الورقي
تحياتي وفائق إحترامي
محمد حسن كامل

محمد حسن كامل كتب:: أخي المفضال الكريم الأديب والروائي /
هشام نجار

انت تقدم لقراء العربية أدباً من المدرسة الواقعية حيث تتلمس بآطراف أصابعك أدق التفاصيل وإلقاء الضوء على كل جوانب الحياة في كل محطة
انت تنقل القارئ بين عصرين الماضي الحاضر
كما تقدم شهادة حية على المجتمع العربي في سوريا الحبيبة بل تتغلغل في شعاب الماضي بكل إخلاص
يشهد الله اني أنتظر بلهفة وشوق تلك المحطات وكم حققت لي تلك اليوميات سعادة غامرة وانت تأخذ بيدي في دنيا الطفولة والبرأة والمرح
أشكرك ايها الأديب الأريب
وحبذا لو زدت الموضوع بصور ليكون جاهزاً من نقله من العالم الرقمي إلى الورقي
تحياتي وفائق إحترامي
محمد حسن كامل

اخي وصديقي الفاضل الأستاذ الكبير محمد حسن كامل حفظه الله
اشكركم جزيل الشكر على كلماتكم الرقيقه الرائعه واني آمل من الله عز وجل ان يكون في عرض هذه المحطات على القراء الأفاضل بعض الفائده . نعم اخي الكريم هناك صور مصاحبه لهذه المحطات وحبذا لو احصل على بعض المعلومات عن كيفية تحميلها مع المقاله وشكرآ. مع خالص مودتي

» محطات صغيره في حياة إنسان عادي - الحلقه الأولى / ولادة الذاكره - الجزء الأول
» محطات صغيره في حياة إنسان عادي - الحلقه الرابعه / طالب ثانوي (الجزء الأول)
» ( محطات صغيره في حياة إنسان عادي - الحلقه الرابعه / طالب ثانوي (الجزء الثاني)
» محطات صغيره في حياة إنسان عادي - الحلقه االثانيه / طفوله بريئه وشباب يافع - الجزء الأول
» محطات صغيره في حياة إنسان عادي - الحلقه الثانيه/ طفوله بريئه وشباب يافع - الجزء الثاني