منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها, والناس يتوالون والأفكار تتكاثر والطبائع تختلف, مما جعل الرؤى تتباين والاتجاهات تتمحور .
فتمخض عن ذلك أن وجدت شعوب وقبائل كل لها عاداتها وتقاليدها ومميزاتها وسماتها وخصائصها بالإضافة إلى طبائعها الخاصة بكل مجتمع على حدة والتي تضفي عليه نكهة مميزة, كما يقول المثل السائر ( الناس معادن ).
ولأن العرب جميعهم تجمعهم سلالة واحدة ونسب واحد حيث أنهم يعودون إلى سام ابن نوح عليه السلام وهذا الأمر جعلهم نسبيا قريبو الطبائع من بعض.
وبعد استقراء ذاتي للوضع الراهن ومراجعة بحثية للشواهد التاريخية أيقنت أن هنالك جدار عازل يحول دون وصولنا للديمقراطية الحقة واستغلالها الأمثل نحو الارتقاء بمجتمعنا- كما نهضت البلدان الغربية- وكان ذلك العازل في نظري هو طابع العناد الذي جبلنا عليه نحن العرب والذي أراه السبب الأبرز بين العديد من الأسباب والعقبات التي قوضت مسار الديمقراطية في مجتمعنا والتي منها الجهل والعصبية والتفرقة وقصر النظر وغيرها.
فكما أن للعرب طبائع أصيلة كالكرم والجود والشهامة والنخوة إلا أن العناد يعد أحد تلك الطبائع فالكمال لله وحدة سبحانه, وهذه الطبائع وغيرها تتفاوت بين المجتمعات؛ إلا أني ألمح تزايداً في نسبتها بين العرب عن بقية المجتمعات.
فمنذ الجاهلية الأولى ونحن نرى هذا الطابع يتسلل في إثارة الحروب والنعرات بين القبائل آنذاك كحرب البسوس وداحس والغبراء وصراعات الأوس والخزرج إلا أن الإسلام وحده بما فيه من القيم النبيلة التي ترتقي بالمجتمع كالعدل والأخوة والرحمة والمساواة استطاع أن يكبح هذا الطابع وذلك حين تمسك به أجدادنا الأولون وحفظوه في صدورهم وصانوه بجوارحهم ودافعوا عنه بألسنتهم ولكن في عصرنا الحالي خصوصا مع ما يحمله من عولمة تطال كل بيت, وتغريب ثقافي يحلق ما حوله من الثقافات, وإمبريالية تتغلغل في كل ما يحيط بنا, كل ذلك وأكثر ساهم في تخلي الناس عن دينهم شيئاً فشيئاً بالتزامن مع نمو هذا الطابع رويداً رويداً.
وهذا الطابع ووقوده الحقد سببا لنا أزمة سياسية لا نستطيع الخلاص منها فكلنا يعلم أن الديمقراطية بمفهومها المجمل هي حكم الشعب بالشعب والحرية المطلقة وهذا يقتضي العمل السياسي والفكري بمساحات لا محدودة.
ولأن البشر جميعهم أيا كانوا يسعون للارتقاء بأنفسهم وبمجتمعهم؛ أمراً جعل منهم يحذون المسالك الصحيحة نحو نهضة واستقرار بلدانهم, لأن هذا يعود عليهم بالنفع فرداً وأسرةً ومجتمعاً.
لذلك وجدنا المجتمعات في الدول المتقدمة بذلت جهدا كبيرا في سبيل النهضة فتغافلت عن آلامها وتناست أحقادها وكمدت جراحها وتابعت السير قدما نحو بر الأمان بعد أن تخلصت من الجهل والظلام الذي كان يسودها ويبطش بلجام فرسها في العصور الوسطى فكان السبب الرئيس وراء تخلفها في تلك الحقبة من الزمن.
إلا أن الحال يختلف في الدول العربية, فالبلدان التي كانت يوما ما ترتدي بمباهاة لباس الديمقراطية ووشاح الحرية وجدت أنها باتت تلعن بها وتشتكي من سوء صنيعها وما آل به الحال من الشتات والفرقة و أخذ طابع العناد مكان وسطاً بين الأحزاب السياسية يتجسد على شكل سياط يجلد بها ظهر الوطن بلا رحمة فبات الوطن طريح الفراش, بحيث يخيل إلى كل منهم أن الوطن ملك للطرف الآخر فقط, فكل حزب يسعى لإفشال الآخر على شكل مكايدات سياسية لم نجني منها سوى الدمار ولم نحصد منها سوى الخراب, فهذا يسب هذا وذاك يلعن ذاك وآخر يخرب على آخر وكلاً يرد بالمثل والنتيجة أن فشل الجميع ومزقت عباءة الوطن وزادت نار البغضاء من لظاها وتفجر بركان الحقد وتم وأد التعايش السلمي بين الجميع.
ولعلنا شهدنا مطلع هذا العقد من الزمان ثورات في عدة دول بما يسمى الربيع العربي, تنادي بانتزاع الديمقراطية من أنياب مفترسيها وتجريد الحرية من أغلالها وتحرير حمامة السلام من قفصها , إلا أن تلك الثورات لم تجد ضالتها المنشودة وأمتزج بستان الثورات تلك بعواصف رملية أضفت عليها ضباباً زاد من الطين بلة, ولا نكاد نرى أثراً لنبات زرعٍ قد غرست رغم أنها سقيت برحيق أحمر وامتزجت تربتها بأوراق نضرة ضحت بجمالها وبريق طلعتها من أجل غد مشرق لمثيلاتها لهذا أجد أن الديمقراطية قد لا تناسب طبيعتنا ولعل هذه التجارب وسابقاتها خير شاهد على ما أقول.
لذا يجب علينا أن ندرك خطورة هذا الطابع وننأى بأنفسنا عنه ونكون يدا واحدة في بناء الدولة الحديثة بعيداً عن الأحقاد والعصبية التي تفضي للعناد والذي يفضي بدوره للغوغائية والضياع وأن نرتقي بأنفسنا عن النقائص ونعود إلى ديننا ونتقي الله في أنفسنا ووطننا وأن نقدم مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات ونكون بذور خير لحياة أفضل تسقى بالحب والإخاء والتسامح.
عبد الرحمن محمود