وهم الحداثة

أمر الحداثة أمر في غاية الأهمية إذ أننا في كل يوم نتكلم عن الحداثة وندعو إليها ، ونقرأ للكثير من العلماء والمفكرين المؤلفات والدراسات العديدة التي تبشر بالحداثة ، ولكن ما يشغلني هو هذا الزمن من عهد فكر أفلاطون إلى عهد فكر هيدجر ، وهذه النون التي تفصل كلاهما عن بعض . أين اختزلها الفكر العربي ؟ وفي أي خانة وضعها ؟ وإن كان كل ما مضى لا ينظر له على أنه الحداثة فما عساه يكون وهذا بالطبع إذا أخذنا الحداثة بمعناها السطحي ، أي مقدار ما تعكسه من تطور وتقدم يقدم إلينا في كل يوم شيئاً جديداً ، ولكن إذا نظرنا إلى الحداثة بعمق وقرأنا كل من فكر علي حرب وأركون ونيتشه وفوكو سنجد أنهم ينظرون للحداثة من منطلق أعم وأشمل ، فهم يرون أن الحداثة تكمن في قراءة ونظرة جديدة للأمور أي إشغال الفكر والدخول على الخطاب أو الموجود من واقعه أو علم أو فكر من زاوية أخرى غير تلك التي عرض منها (أي أننا يمكن أن نقرأ أفلاطون قراءة جديدة مبتكرة في حين هناك من يقرا هيدجر قراءة تقليدية تخلو من الجدة والابتكار) "علي حرب" . وبهذا فإن الحداثة إذن ليست مجرد دعوة أو رسالة نبشر بها وإنما هي خلق مستمر نتغير به بقدر ما نغير العالم وموقف ورؤية تستمد من جميع الكتابات والنظريات المعاصرة التي خرجت عن أطوارها التقليدية . وبما أنها ليست رسالة تبشيرية وتجربة لا تكتمل فإنها بالتالي رؤية إشكالية نقدية تحفر في أركيولوجيا الفكر لتكشف لنا ما هو ما هو بعيد وغير مرئي وما يخفيه المعقول والمشروع من اللامعقول واللامشروع .
لنعد إذاً إلى وهم الحداثة وأقصد هنا الحداثة من منظورها السطحي الذي يعتنق الحداثة كما لو أنها ديانة يجب عليه الوقوف عندها موقف التقديس والتبجيل ، وبالتالي علاقة مع الحداثة تخلو من الخلق والابتكار . فالحداثة ليست نموذجاً يحتذى به أي ليست قالباً جاهزاً للاستعمال وإنما هي قدرة جديدة على الخلق والاستمرار ، والحداثة لا يمكن أن تقلد وإنما كل واحد يصنع حداثته ، وهذا ما يحل الإشكال مع الحداثة عندما تأتي من الآخر، بأن يكون فعل التحديث غير قائم على محاكاة الغرب ولا رفضه -لأنه أصلاً واقع مفروض – وإنما خلق حداثة مغايرة ومبتكرة . ولا يمنع ذلك اعتماد الأدوات والمواد نفسها في فعل التحديث ، ولا نقصد هنا وهم التغير الشامل ، أي الاعتقاد بأن عملية التحديث ستكون شاملة وكلية وهذا ما يدعيه كل أصحاب مشاريع التحديث على اختلاف اتجاهاتهم ،لأننا في الحداثة ما نلبث أن نخرج من وهم لنقع في الآخر . ولا عجب في ذلك إذ كنا أصلاً نعيش وهم الحداثة بأكمله ، والوهم هذه المرة هو وهم الانقطاع الجذري الذي ينادي بإمكانية إحداث قطيعة جذرية مع الماضي وهو وهم لا يقود إلا للتضليل والإيهام ليس إلا ، إذ أنه لا يمكن لنا أن نتخطى العائق الإنطولوجي المتمثل في ( اللغة والذاكرة والتراث) ، لأننا في ابتعادنا عن الماضي إنما نحن نعود للارتباط به والاقتراب منه أكثر ولكن بصورة جديدة وقراءة مغايرة غير تلك التي كانت في الماضي لنرسم لأنفسنا حاضراً ومستقبلاً يتغذى من جذور الماضي . وبما أننا لا نستطيع تخطي الماضي ، فإننا نستطيع أن نغير نمط التعامل مع الماضي والمعطى الموروث بأن نتحرر من سلطته الجاثمة علينا ونقيم معه علاقة نقدية خلاقة ومنتجه ، أي لا نعود إلى الماضي من أجل نفيه وإقصائه أو من أجل اجتراره وتكراره . وإنما من أجل الاشتغال عليه بوصفه إمكاناً وجودياً يمكن لنا من خلاله ممارسة الحداثة بتحديث اللغة والنص والفكر .
في النهاية ..
نحن لا نسعى لتعريف الحداثة أو ذكر المكونات وطرق الطهي لأن الحداثة ليست طبقاً يمكن إعداده بتوافر المواد والأدوات وإنما هي رؤية ونظرة جديدة تنبع من قدرتنا على تغيير طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع الأفكار والتخلص من (وهم الحداثة) الذي ينادي بالحداثة على أنها رسالة تبشيرية تستحق منا الولاء والتعظيم وأن الحداثة هي ضد السلفية في حين أن كل هذه الادعاءات لا تخرج عن إطار السلفية والموضوعية التي تحاول أن تصرفنا عن الحداثة وما خلفها بالحديث عن الحداثة وما بعدها .
بقلم :شادية الترك]