قبر غطته الثلوج
يخيم السكون على كل شئ حولي، حداءة تحوم فوق رأسي منذ وصولي إلى المقابر.. أتلفت هنا وهناك.. أبحث عن طريق لأصل إليها فلا أجده، لم أحضر لزيارتها من زمن، لكني اشتاق إليها كثيرا، فأكتفي بقراءة الفاتحة وشئ من الذكر..كم أوصتني قبل رحيلها بذلك، لكنها مشاغل الحياة، حين أذهب إليها ونلتقي سأحكي لها كلَّ شئ، وحتما ستسامحني..
تختفي الشمس فجأة، وتعلو الحداءة بعيدا لتغوص في قلوب الغيوم، يظلم الكون حولي.. تفاجئني همهمات وضوضاء تختلط بالعدودة القديمة لأمي يوم مات أبي.. تطن في أذني كثيرا، ولا أعلم من أين تأتي، لا أرى أحداً غيري.. أخالني مضطرباً يتملكني الهلع، أفرك عيني بظهر يدي فربما أحلم.. صراخ لأناس يقذفون من علٍ، فيرتطمون بالأرض،، تعلو أتربة كثيفة، وزوابع تدور كالدخان حولي.. تمتد إلى وسع السماء.. أصرخ بأعلى ما أستطيع، يدور الصراخ مع الزوبعة، ويصعد إلى ما لانهاية، يذوب في العنان، أختفي في ظلالها السوداء؛ فلا أراني، قلبي يكاد يتوقف عن النبض.
رويدا يهدأ كل شئ حولي، وأنا واقف حيث كنت..
صمتٌ برهبة، وهدوء عجيب وكأن شيئاً لم يحدث بعد، عدت أتلفت في ترقب.. ليس هناك سوى موتى وقبور.. أتنقل في حذر شديدٍ بينهم؛ جسدي يرتعد، والشمس المخنوقة فوق رأسي.. تحاول التملص من غيوم تجثم على أنفاسها بلا فائدة، تشعرني بالضيقٍ..يسقط المطر ويزداد شيئا فشيئاً، السماء تبرق فتعمي البصر، وصوت الرعد يصك الأذان..
مذعورا أواصل البحث عنه في ظلمتى.. أجري يمنا ويسارا بين دروب الموتى.. علّها تراني فتناديني.. الماء الساقط من غضبة السماء يتحوّل إلى ثلوج، تتراكم كلها على قبر واحدٍ دون كل القبور، مسحة اطمئنان تدب في قلبي؛ حين بدا لي قبر من بعيد أكاد أعرفه.. هممت إليه، وشبه ابتسامة ترتسم على شفتي، ارتميت فوقه وكأني أحتمي به، أجهشت بالبكاء حين شممت عبق أنفاسها التي افتقدتها من زمن، بدأت أشكي آلامي كلها وأوجاعي منذ تركتني في خضم حياة بائسة ومضت..
صيحة عالية راحت تدوي في الفضاءات البعيدة، توقظ الموتى.. هناك راح قبرها الذي تغطيه الثلوج يهتز بشدة، تشقق الأرض ويتبعثر القبر، تخرج منه امرأة عجوز قاسية القسمات، تزيح الثلوج وتنفض التراب عن رأسها.. تتدثر في سوادٍ بطعم الليل، وتَصُر في طرف طرحتها بعضا من غلال.. راحت تنثرها على كل القبور التي تحيط بقبرها، عادت الحداءة للظهور من جديد، اقتربت تحوم فوق رأس العجوز، ثم تنحرط إلى القبور تلتقط كل الحبات التي نثرتها العجوز...
عندما أتت عليها جميعا..تغير لون السماء، وانتفض الموتي كلهم.. خرجوا من قبورهم، فسارعت الحداءة بالفرار، وانطلق الموتى الحفاة العراة ثائرين يشقون الأنهار، ويصنعون الحياة من جديد.. يجدون الخُطا يبحثون عمّا تبقى، توقف البرق والرعد، سكنت العاصفة، هدأت السماء، وازدان الكون بالشمس، فارتعشت العجوز، وسقطت على الأرض، فابتلعها قبرها، وعادت تغطيه الثلوج..!
***د/ ثروت عكاشة السنوسي
مصر- أسيوط- يناير 2011م