ريــم العيـساوي
عدد المساهمات : 33 نقاط : 85 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 17/06/2010
| موضوع: قراءة في قصيدة من منفى إلى منفى لعبد الله البردوني- ريم العيساوي الجمعة يونيو 18, 2010 10:14 pm | |
| قراءة في قصيدة
من منفى إلى منفى –ريم العيساوي
لعبد الله البردّوني
من منفى إلى منفى بلادي من يدي طاغ ** إلى أطغى إلى أجفى ومن سجن إلى سجن ** ومن منفى إلى منفى و من مستعمر باد ** إلى مستعمر أخفى ومن وحش إلى وحشين ** وهي الناقة العجفا بلادي في كهوف الموت ** لا تفنى و لا تشفى تنقر في القبور الخرس ** عن ميلادها الأصفى وعن و عد ربيعيّ ** وراء عيونها أغفى عن الحلم الذي يأتي ** عن الطيف الذي استخفى فتمضي من دجى ضاف ** إلى أدجى إلى أضفى بلادي في ديار الغير ** أو في دارها لهفى وحتى في أراضيها ** تقاسي غربة المنفى عبد الله البردّني من الشعراء اليمنيين الذين أثروا الحركة الأدبية لا ببلده اليمن فحسب ،بل عرف على مستوى الساحة الثقافية العربية عامة . ولد ببردّون وهي قرية جميلة شاعرية الهواء ذهبية الأصائل والأسحار، تخرّج البردّوني من دار المعلمين سنة 1952 م وصار فيها مدرسا للأدب العربي . والبردّوني من الشعراء المكفوفين فقد بصره في سن الطفولة وبدأ يقرض الشعر منذ الثالثة عشرة من عمره ،وجاء أكثر شعره في الشكوى من الزمن والضيق من الحياة وفي شعره نزعات هجائية تكونت من سخطه على المترفين . والبردّوني من الشعراء القلائل في اليمن _ بل في الوطن العربي_ الذين حافظوا على شرارة القصيدة العمودية وهو من قراء الشعر الحديث يفيد من صوره ومن تحرره في استغلال اللغة ونظامها وقد اكتسب شعره رغم محافظته أهمية كبرى في السنوات الأخيرة لمضامينه الجماهيرية الواقعية . وهذه القصيدة "من منفى إلى منفى" من مجموعته "لعيني أم بلقيس" وهي المجموعة الرابعة الصادرة سنة 1974 م بدمشق وجاءت بعد دواوينه !- من أرض بلقيس -2- في طريق الفجر- 3- مدينة الغد وله ديوان – السفر إلى الأيام الخضر و" وجوه دخانية في مرايا الليل " و " وزمان بلا نوعية ". ولعبد الله البردّوني كتب ودراسات منها " قضايا يمنية " –وهي مجموعة مقالات سياسية وفكرية وكتاب " الجديد المتجدد في الأدب اليمني " و" رجال ومواقف " وهو دراسة تقويمية لشخصيات يمنية من خلال المواقف المتناقضة وله كتاب " من أول قصيدة إلى آخر رصاصة " في حياة الزبيري وأشعاره ونضاله السياسي وكتاب " الأدب الشعبي من الأسطورة إلى القصيدة الثورية " وله كتاب مهم في النقد " رحلة في الشعر اليمني " مسح فيه مرحلة العصر الجاهلي إلى عهد النهضة وإلى عهد الثورة في تاريخ الشعر اليمني . وإذا أردنا وضع قصيدة " من منفى إلى منفى " في إطارها التاريخي للشعر اليمني المعاصر فهي ترتبط بمرحلة المقاومة والثورة التي انطلقت سنة 1962 م وهذا حسب تقسيم الشاعر والناقد عبد العزيز المقالح في كتابه" الشعر المعاصر في اليمن عن دار العودة ط2 – بيروت – 1978 م وقد اعتبر عمر الشعر اليمني المعاصر ثلاثين سنة امتد على أربع مراحل : 1- مرحلة الإيقاظ : من 1939 م إلى 1948 م فترة الطموح والخروج من العزلة واتسم الشعر في هذه المرحلة بالطابع الكلاسيكي . 2- مرحلة الاحتجاج :من 1948 م إلى 1955 م فترة الانكسار الأول وانتصار المد الرومانسي نتيجة ردود فعل الإحباط الثوري . 3- مرحلة التمرد :من 1955 م إلى 1962 م فترة الانكسار الثاني عن الثورة والتمرد وفيها اختلطت كل الأصوات الكلاسيكية والرومانسية مع طلائع الواقعية . 4- مرحلة المقاومة والثورة :من 1962 م إلى يومنا فترة الانفتاح والأمل وجنوح الشعر في معظمه نحو الواقعية مع أصوات عالية للرومانسية الثورية وبقايا من الكلاسيكية الجديدة . وهذا الربط بين الشعر والواقع السياسي يدعونا إلى التذكير بإيجاز بتاريخ اليمن فقد عرفت ازدهارا كبيرا يعود إلى 4000 سنة ق م وتقدما حضاريا مازال محيرا لعلماء الأنتروبولوجيا ورجال التاريخ ثم مرور اليمن بعزلة في ظل الفترة الإسلامية حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر فلم يخرج اليمن من عزلته ولم يدخل العصر الحديث وقد قال عنه طه حسين في كتابه : الحياة الأدبية في جزيرة العرب " فقد كان يرجى أن يكون اليمن أسرع البلدان العربية إلى الأخذ بأسباب الحياة الجديدة لأن هذه البقعة ظلت طوال القرون الوسطى أكثر البلدان العربية حظا من العلم والأدب في حواضرها ، لكن هذا لم يتحقق وفي أواخر النصف الأول من القرن العشرين بدأ الشعب اليمني يصحو على صوت العصر ليجد نفسه خارج التاريخ : أرض مشتتة تحكم الإمامة بشمالها ويتحكم الاستعمار بجنوبها وتصل لسنة 1934 م تاريخ أسوأ كارثة عرفها اليمن بانقسام اليمن إلى ثلاثة أجزاء" . صور البردّوني في قصيدة " من منفى على منفى " غربة وطنه في نبرة بكائية مشحونة بالتشاؤم والتفجّع وهي غربة تمتد عبر الزمان والمكان وتشكّل صورة من المأساة المتواصلة . بنى البردّوني هذه القصيدة على بحرالهزج ( مفاعيلن – مفاعيلن) وهو بحر لا يستعمل عادة إلا مجزوءا وهذا البحر ارتبط بمعنى العواء ، جاء في الحديث الشريف :" أدبر الشيطان وله هزج " كما ارتبط بمعنى النحيب . وتتضمن القصيدة ثلاث وحدات ، وحدة أولى تبدو فيها صورة الوطن بين مخالب عدو متعدّد ومتوحش امتص قوته وصيّره إلى الهزال وهذا القسم يغلب عليه السكون جسّده الكاتب بصورة البقرة العجفاء والقسم الثاني تبدو فيه صورة الوطن المحتضر يحاول الخلاص من الموت وتحقيق الحرية لكنه يسقط من جديد في الموت ، جسد الشاعر هذه المعاني بصورة الغراب . القسم الثالث سجل نتائج الواقع السياسي المتدهور مضاعفة الانغلاق وكثافة الغربة فهي داخل الوطن وخارجه . "من منفى إلى منفى " عنوان يفاجئ القارئ بشكله الدائري الذي أسسه الشاعر على حرفي الجر (من وإلى) ليصور حلقة مغلقة تتشابه فيها البداية والنهاية لتصوير واقع الوطن تصويرا يوحي بمعنى الاختناق ويعمق المأساة التي يعيشها الوطن وهي مأساة تحاصره من كل حدب وصوب ، وبهذه الصورة يختزل العنوان بتركيبته الدائرية تاريخا كاملا منغلقا معزولا عن الصيرورة الديناميكية للتاريخ الوجودي والحضاري للإنسان وبهذه الصورة أيضا يتضمن العنوان معنى المأساة المكثفة ويصفها . إنّ صورة الوطن في القسم الأول من القصيدة صورة تتجمع عناصرها من أطراف متعددة ، حاول أن يرسمها الشاعر رسما دقيقا معمقا معنى المعاناة . فالوطن فريسة لطاغ وفريسة لأطغى وفريسة لأجفى وهو الواقع التاريخي الممزق الذي عاشه اليمن بين عدو متعدد . كما عمق الشاعر صورة التشرذم والانقسام وتصدع الواقع وخضوع اليمن لأنواع من أشكال العبودية ، ونحت البردّوني صورة الوطن على شكل "ناقة عجفاء" ناقة هزيلة لا لحم فيها ولا شحم وهنا يبدو استلهام البردّوني من القصص القرآني بأن تحيلنا الصورة على قصة سيدنا يوسف ومحنته مع إخوته : " وأني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف " . ولعل نظام اللغة في هذا المقطع يدل على براعة الشاعر في استغلال إمكاناتها وتطويعها لتوفير العنصر الجمالي المرغوب ، وذلك مما يحدثه هذا النظام وما يحويه من طاقة صوتية جاءت في بنية متماسكة ،تشد السامع وتنفذ إلى وجدانه بما جاء به الشاعر من صور التعاود والتكرار حققه عن طريق التوازي وعن طريق الحروف والصيغ المكررة : من ( 5مرات ) –إلى ( 6 مرات )- سجن ( مرتين )- منفى ( مرتين ) – مستعمر ( مرتين ) – وحش ( مرتين ) إنها جملة من الثنائيات على مستوى الحرف والكلمة . كذلك التفعيلة تؤسس جملة من الإيقاعات توحي بحالة نفسية غارقة في الحزن حالة من التمزق والانسحاق والضياع والإحساس بعبثية الحياة ، حالة غريبة يسقط فيها الأول والآخر.. وكأنّ أسلوب التوازي يأخذ عمقه الشعري بتفجير اللغة وشحنها بشحنة ثورية ، وهذا التوازي يبرز كذلك في بنية القصيدة الثلاثية إذ كل قسم فيها يبدأ بكلمة بلادي ، فالقسم الأول جاء في جملة اسمية مركزها ومبتدؤها كلمة بلادي تدور حولها صيغ إخبارية متعددة تنتهي بجملة اسمية حالية ينغلق بها القسم الأول وهو صدر البيت الرابع وهذه الصيغ تساهم كلها في تعميق حالة السكون وضعف الفعل وتكشف واقعا متدهورا يغلب عليه التأزم لذلك جاءت اللغة متوترة مجسدة للفاجعة متحركة بين الموت والحلم بالبعث والولادة . كما أن التكرار المنظم للكلمات يوحي بجو تفجعي قريب إلى جو الندبة ، بحر الهزج يوحي بالنحيب ، كل هذه العناصر تكثّف المعاناة . كما لا يخفى جانب المرارة الساخرة في وصف البلاد بناقة عجفاء ، وما توحي به قصة يوسف من بطش الأخ لأخيه . ويتأكد معنى البكائية والرثاء في القسم الثاني من القصيدة ، فيصور الشاعر البلاد تعيش احتضارا ممتدا ( لا تفنى ولا تشفى ). جسد الشاعر حالة من العذاب الدائم باستعادة صورة الغراب مؤكدا معنى التشاؤم والنحس ، إنه اليأس من تأكيد من تحقيق الوحدة الموعودة وتضميد الجراح النازفة ، وكان الظرف الزمني سنة 1971 م فترة نكسة وتراجع وهو العام السابق للحرب الأهلية وهو واقع متقهقر مجهض لأحلام البلاد ولشعبها ومثقفيها بعد مرور تسع سنوات على إعلان الجمهورية . في الجزء الثاني من القصيدة تقوى الحركة وتخرج القصيدة من السكونية بتكثيف الأفعال ، ورغم توفر الأفعال فهي تبقى دالة على محيط الموت ، و"النقر في القبور الخرس" محاولة لتجاوز الواقع المتدهور وتخطيه وتبشر اللغة بحالة التفاؤل : ( ميلاد – وعد – حلم ) ورغم رومانسية الصورة فهي ضبابية ،مما يوحي بمصير البلاد الذي لم يتحدد . كما بنى الشاعر الصورة على جملة من الثنائيات المتقابلة ( الميلاد – الموت – باد – أخفى - ) وهذه الثنائيات تعمق معنى التوتر . في القسم الأخير من القصيدة يصرح الشاعر بمعنى الغربة وهي غربة مكثفة من الداخل ومن الخارج ، لقد تضافرت هذه العناصر لتؤكد أنّ البردّوني شاعر ملتزم بقضايا بلاده ويتحدث بضمير الأمة ويحمل بذرة الوعي وشعلة الثورة ويجعلنا ندرك أن الثورة بحاجة إلى الشاعر و إلى الشعر .
__________________ | |
|